مسطرة التحكيم ومدى إلزامية القرارات التحكيمية
إذا وصل النزاع إلى مرحلة التحكيم فإن أطراف النزاع تقوم باتفاق فيما بينها باختيار حكم وذلك من لائحة الحكام التي تصدر بواسطة قرار يتخذه وزير الشغل ويتم وضع هذه اللائحة بناءا على اقتراحات المنظمات المهنية للمشغلين والمنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا، لكن قبل الشروع في التحدث عن مسطرة التحكم يحق لنا أن نتساءل عن الشروط الواجب توافرها في الحكم الذي سينظر في النزاع؟
تنص المادة 568 من مدونة الشغل المغربية على ما يلي:
"يراعى عند وضع لائحة الحكام ما للشخص من سلطة معنوية وما له من كفاءات واختصاصات في المجال
الاقتصادي والاجتماعي، تراجع لائحة الحكام مرة كل ثلاث سنوات يحدد تعويض للحكم حسب القواعد الجاري
بها العمل".
وعند التمعن في هذه المادة يمكن إبداء بعض الملاحظات باقتضاب وهي:
- أنه كان بالإمكان ما دام الأمر يتعلق بنزاع جماعي في المجال الاجتماعي أن تتم إضافة عنصر آخر، وهو التوفر على الاختصاص في مجال القانون الاجتماعي بالنسبة لهذا الحكم مع تسجيل أن المدونة وفقت إلى حد ما في ذكر أهم العناصر التي ينبغي توافرها في الحكم.
- إن التعويض المنصوص عليه الذي يدفع للحكم يجب أن يكون محددا بواسطة نص تنظيمي وأن يكون تعويضا يضمن فعلا للحكم استقلاله عن طرفي النزاع.
- إنه في نظرنا المتواضع أن حكما واحدا لا يستطيع دراسة كل جوانب النزاع الجماعي وذلك لأن هذه النزاعات كثيرا ما تكون معقدة تتداخل فيها العناصر الاقتصادية والقانونية والاجتماعية، وبالتالي فقد كان بالإمكان التنصيص على أن أطراف النزاع يختارون باتفاق فيما بينهم حكما أو أكثر.
أولا: مسطرة التحكيم:
طبقا للمادة 567 من ق.ش.م فإن اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة أو اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة يحق لكل منهما أن تقوم بإحالته على التحكيم بعد موافقة أطراف النزاع، لذا فإن الحكم بعد توصله بالملف والمحضر المذكورين في المادة 567 م.ش.م عليه القيام بعدة إجراءات لعل أهمها:
1 استدعاء الأطراف:
طبقا للمادة 570 من المدونة فإن الحكم يقوم باستدعاء الأطراف بواسطة برقية في أجل أقصاه 4 أيام ابتداء من تاريخ تلقيه أو توصله بالمحضر ويجب على أطراف النزاع أن يحضروا شخصيا أمام الحكم أو ينيبوا عنهم نائبا قانونيا وذلك في الحالة التي يتعذر عليهم فيها الحضور بصفة شخصية، وإذا تعلق الأمر بشخص اعتباري فإنه يتم تمثيله من طرف الممثل القانوني له، وتضيف المادة 570 من مدونة الشغل أن الحكم يتمتع بنفس الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة حسب المادة 561 من مدونة الشغل، وبالتالي فإنه يحق له أن يقوم بجميع إجراءات لتقصي الحقائق حول أوضاع المقاولات والأجراء المعنيين بالنزاع الجماعي، كما يمكنه أن يطلب من الأطراف الإطلاع على كل المستندات والوثائق المتعلقة بالنزاع، كما يجوز له أن يستعين بأحد الخبراء أو أحد الأشخاص الذين يرى في الاستعانة بهم فائدة، وهنا يمكننا أن نتساءل هل يمكن للحكم أن يبت في نقاط جديدة يثيرها أطراف النزاع لأول مرة؟ وهل من حقه أ، يبت في الوقائع التي حدثت بعد توصله بمحضر عدم التصالح؟
من خلال المادة 573 من مدونة الشغل يمكن أن نستشف أن الحكم ليس حرا في تناول أي موضوع أو البت فيه، وإنما يجب عليه أن يبت في المواضيع والاقتراحات التي جاءت في محضر عدم التصالح أو في الوقائع التي طرأت بعد تحرير هذا المحضر، ومعنى هذا أن النقاط التي يثيرها الأطراف والمتعلقة بعناصر لا علاقة لها بالنزاع، أو غير المدرجة في محضر عدم التصالح، أو التي تتعلق بوقائع طرأت بعد النزاع ولكنها ليست ناتجة عنه، كل هذه العناصر الآنفة الذكر لا تدخل في اختصاص الحكم. أما بخصوص القواعد التي يطبقها الحكم فقد نصت المادة 572 من .مش على أن الحكم يطبق في النزاع المعروض عليه القواعد القانونية الواجبة التطبيق، سواء تعلق الأمر بنصوص تشريعية أو تنظيمية أو تعاقدية مثل الاتفاقيات الجماعية، فإذا لم توجد هناك نصوص قانونية بشأن هذا النزاع تولى الحكم تطبيق قواعد العدالة والإنصاف .
وهنا أشير إلى نزاعات الشغل الجماعية ليست قاصرة على الخلافات التي تقوم حول تفسير عقد من العقود أو قانون من القوانين، وإنما تتعدى ذلك إلى الأساس الذي تقوم عليه علاقة الشغل أصلا، لذلك فإن معظم التشريعات المقارنة تسمح لهيئات التحكيم بإنشاء علاقات قانونية جديدة بين طرفي النزاع أو تعديل العلاقات القائمة، فالحكم في نزاعات الشغل الجماعية له العدول إلى مبادئ العدالة وقواعدها كلما تعلق الأمر بنزاعات اقتصادية، لأن هذه النزاعات لا تنصب أساسا على تأويل نص أو تفسيره، وإنما تتعلق بحقوق غير متطرق إليها من طرف المشرع، أو حقوق وامتيازات لم تعد منسجمة مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة، مما لا يمكن معه للطبقة العاملة
الانتظار لغاية أن يتدخل المشرع بتعديل القانون المعمول به ليساير الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتغيرة، لاذا عادة ما تلجأ الطبقة العاملة إلى الحكم أو هيئة التحكيم الذين يكون لهم الحق في تقرير هذه الحقوق وتلك الامتيازات إذا تبين لهم أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية تتطلبها فعلا، والهيئة في كل الأحوال تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الطرفين معا مما لا يخشى معه أن يلحق بأي منهما أي إجحاف أو حيف 1 .
أما بخصوص الأجل القانون لصدور الحكم فقد نصت المادة 574 م.ش.م على أن الحكم عليه أن يصدر قراره في فترة وجيزة لا تزيد عن أربعة أيام ابتداء من تاريخ حضور الأطراف أمامه، وهنا يحق لنا أن نتساءل هل تأخر الحكم في إصدار قراره بعد المدة المحددة له قانونا يترتب عليه بطلان قراره أم لا؟ يلاحظ أن المشرع نظرا لتخوفه من الآثار السلبية التي قد تنجم عن تطويل أمد النزاع الجماعي نص على مدة محدد ينبغي لقرار التحكيم أن يصدر فيها، إلا أن التأخر عن هذه المدة لا يترتب عليه بطلان قرار التحكيم، ويلاحظ هنا أن هذه الفترة قصيرة وقياسية مما تنبغي معه المطالبة بفترة أطول خصوصا وأن اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة تتوفر على مدة أطول تقدر بستة أيام لتسوية النزاع المعروض عليها الفصل 560 م.ش، وفي الأخير أشير إلى أن الحكم بحاجة إلى أن يشغل معه طاقم من الخبراء والمستشارين لأنه ومهما بلغت خبرته وكفاءته فسيحتاج إلى مؤازرة تقنية وقانونية واقتصادية، كما أن قراره ينبغي تبليغه للأطراف عند صدوره في فترة وجيزة تقدر ب 24 ساعة، وذلك بواسطة رسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل 2.
2: مدى القوة الإلزامية لقرارالتحكيم:
انطلاقا من الفصل 581 من م.ش فإن قرار التحكيم له قوة تنفيذية وفق ما ينص عليه قانون المسطرة المدني، وحسب القواعد الواردة بهذا القانون بالخصوص 428 وما بعدها من قانون المسطرة المدنية، واعتبارا لكون القرار التحكيمي بمثابة حكم فإن التنفيذ يتم بناء على طلب من المستفيد من القرار أو من ينوب عنه ، ويتم التنفيذ بواسطة كتابة الضبط التي توجد في دائرتها المقاولة المعنية بالنزاع الجماعي، إلا أنه في نظري أن المشرع كان عليه أن ينص في المدونة الجديدة على تحديد نوعية القواعد المتعلقة بالتنفيذ الواردة في المسطرة المدنية التي تطبق في مجال تنفيذ القرارات التحكيمية، كما أنه كان بالإمكان وضع بعض القواعد الخاصة بتنفيذ هذه القرارات
مراعاة لطبيعة النزاع في المادة الاجتماعية 3 .
وتنبغي الإشارة هنا إلى أنه في إطار ظهير 1946 الملغى كان امتناع أحد الأطراف أو عضو من نقابة أو هيئة مهنية كانت طرفا في النزاع عن تنفيذ حكم أصبح نهائيا يعطي الحق لكل من يهمه الأمر أن يطلب من المحكمين أو من الحكم الممتاز الذي أصدر الحكم أن يحكم على النقابة أو الهيئة المهنية أو على الطرف الذي يرفض تنفيذ الحكم بأداء غرامة تهديدية، كما أن عدم تنفيذ أجير أو عدة أجراء لقرار المحكم يعتبر حالة من حالات فسخ العقد الفردي للشغل بدون سند مشروع الفصل 23 من ظهير 1946.4
وهنا نتساءل لماذا تخلى المشرع عن هذه المقتضيات ولم يضمنها في المدونة الجديدة للشغل، وأخيرا أشير إلى أنه إذا كانت هناك اتفاقية شغل جماعية تسري على أطراف النزاع القائم أو كان هناك نظام أساسي يطبق داخل المقاولة أو المؤسسة، أ, كانت هذه الاتفاقية تنص على عدة آليات وإجراءات لتسوية النزاع الجماعي القائم فإن هذه الآليات أو الإجراءات أو المساطر يتعين احترامها ولا يمكن تجاهلها، بل إن الحكم في قرار ه عليه أن يعتمد بالإضافة إلى النصوص التشريعية على الأحكام الواردة في اتفاقيات الشغل الجماعية الفصل 572 م.ش 5 .
1- عبد اللطيف خالفي- الوسيط في علاقات الشغل الجماعية. ص: 227 - 228 .
2- أحمد الكوري مدونة الشغل الجديدة. القانون رقم 99 - 65 ، أحكام عقد الشغل، مطبعة الأمنية، الرباط. الطبعة الأولى. سنة 2004 . ص: 354 وما بعدها.
3- أحمد الكوريمدونة الشغل الجديدة. القانون رقم 99 - 65 ، أحكام عقد الشغل، مطبعة الأمنية، الرباط. الطبعة الأولى. سنة 2004 . ص: 35
4- موسى عبوددروس في القانون الاجتماعي. مطبعة النجاح الجديدة. الطبعة الأولى 1987 . الدار البيضاء ص: 312 .
5- أحمد الكوري مرجع سابق ص: 359.