الوساطة الاتفاقية في نزاعات الشغل الجماعية
أصدر المشرع المغربي القانون رقم 05-08 المتعلق بالتحكيم و الوساطة الاتفاقية التي استجاب لهذه الظرفية التي تتجه نحو الأخذ بالطرق البديلة لفض المنازعات . و باستقراء المقتضيات القانونية التي جاء بها القانون رقم 05-08 و خاصة الفرع الثالث منه، نلاحظ أن المشرع قد نظم من خلاله الجانب الموضوعي لنظام الوساطة الاتفاقية 1 ، بحيث جعل منها تلك الضمانات التي تنعقد عليها الوساطة و تجعل منها نظاما فعالا و محققا لأهدافه، غير أنه لم يدخل في بعض التفاصيل كتعريفها و إبراز خصائصها بشكل واضح. و عليه، و انطلاقا مما سبق تحتاج منا دراسة مستلزمات الوساطة الاتفاقية من خلال هذا المبحث تسليط الضوء على أحكام الوساطة في قانون 05-08 (الفقرة الأولى) من خلال تعريفها و إبراز خصائصها ، و كذلك التطرق: لشروط و إجراءات الوساطة الاتفاقية في مجال نزاعات الشغل الجماعية (الفقرة الثانية) من خلال تحديد مشروعيتها و نطاق تطبيقها ، إضافة إلى مباشرة عملية الوساطة الاتفاقية.
الفقرة الأولى : تعريف الوساطة و خصائصها و نطاق تطبيقها
يتطلب التطرق للوساطة الاتفاقية كوسيلة لتسوية نزاعات الشغل الجماعية ، من خلال التعرف على مشروعية هذه الوسيلة (أولا)، ثم تحديد نطاق تطبيقها (ثانيا).
أولا: تعريف الوساطة و خصائصه
الوساطة في اللغة مأخودة من كلمة وسط، و يقال وسط الشيء ما بين طرفيه كقوله قبضت وسط الجبل. و بالرجوع إلى لسان العرب، نجد أن لكلمة وساطة دلالات لغوية كثيرة، إذ تعني الوسط و التوسط بمعنى الاعتدال في القول و الفعل و الفكر و واسط الشيء أفضله و خياره و الوسيط في القول حسبهم و قد تعددت التعاريف و التصورات الفقهية حول الوساطة، بحيث إن كل تعريف حاول جمع الأركان الأساسية لهذه المسطرة و إعطائها التصور الفقهي المناسب أمام الحياد الإيجابي للمشرع المغربي الذي لم يتدخل بتعريف تشريعي
للوساطة خلاف ما قام به بالنسبة لعقد الوساطة و شرطها 2
إذ عرف الفقه المغربي نظام الوساطة كالآتي: و هي المساعي التي يقوم بها وسيط محايد بين طرفي النزاع، و تتمثل في تقديم المساعدة لهما معا حتى يتمكن كل منهما من تقييم مركزه القانوني و الواقعي في النزاع، و يكون على بينة من المكاسب و الأضرار الكامنة وراء استمرار النزاع 3
و عليه، فإن الوساطة تتميز بمجموعة من الخصائص التي تسهل اتفاق الأطراف على تبني الحلول الودية، و تتمثل أهمها : أن الوساطة هي رد على حاجة ملحة و عاجلة للتوصل إلى تسوية عاجلة، و بأنها مدخل مفتوح و متاح أمام أي من الفرقاء المتنازعين، و أن إجراءاتها تتسم بالمرونة و السرعة و السرية، فهي مرنة لأنها غير مقيدة بإجراءات و شكليات و تعقيدات، و هي سريعة لأنها يجب أن تنجز خلال مهلة قصيرة أي ثلاثة أشهر، و هي سرية بحيث لا يمكن الادلاء بأي تصريحات أو اقتراحات تمت أمام الوسيط، و لا يمكن استعمالها لاحقا خصوصا في أية إجراءات قضائية أو تحكيمية. كما يلتزم كل من يشارك في الوساطة بما في ذلك الوسيط و الفرقاء و ممثليهم و المستشارين و الخبراء و كل من يحضر أثناء الاجتماعات بعدم إفشاء ما يطلع عليه من معلومات أو الاحتفاظ بنسخ عن المستندات المقدمة 4
و أخيرا، تتميز الوساطة في سيطرة الفرقاء على النزاع في كل مراحل تسويته، بحيث يمكنهم التخلي عن الوساطة في أي وقت دون أن يكون في وسع أي منهم التمسك برأي أداه أو اقتراح طرحه أثناء الوساطة 5
ثانيا : نطاق تطبيق الوساطة الاتفاقية
نظرا لأهمية الوساطة الاتفاقية كتقنية بديلة لحل النزاعات، يعد من الضروري معرفة المنازعات القابلة للحل عن طريق الوساطة الاتفاقية وفق ما أقره المشرع المغربي في قانون رقم 05-08 .بناءا على المبدأ الذي تقوم عليه من أنها تجوز في كل ما يجوز فيه الصلح، و لا تجوز فيما لا يجوز فيه الصلح. حيث ينبغي الإشارة إلى أن القضاء التي جوز فيها المشرع الصلح متعددة و مختلفة باختلاف الاهتمامات الاجتماعية و الاقتصادية و منها قضايا الأسرة، القضايا التجارية، القضايا الاجتماعية…الخ
و بالتالي يهم نزاعات الشغل الجماعية.
الفقرة الثانية : شروط و إجراءات الوساطة الاتفاقية
أولا : الشروط الوساطة الاتفاقية
اللجوء إلى اتفاق الوساطة حسب الفصل 56-327 يتم عن طريق اتفاق الطرفين اللذان يرغبان في حل المنازعة التي نشأت أو ستنشأ بينهما. و هذا الاتفاق يتخذ إحدى الصورتين، إما على شكل عقد وساطة، أو على شكل شرط وساطة. و اشترط فيهما المشرع على حد سواء مجموعة من الشروط منها ما هو شكلي ( 1 ) و منها ما هو موضوعي (2) .
1 : الشروط الشكلية للوساطة الاتفاقية
حرص المشرع في تنظيم الوساطة الاتفاقية على إدراج مجموعة من الشروط الشكلية التي لا بد من توفرها و المتمثلة في أن يبرم اتفاق الوساطة كتابة، و أن يحترم الوسيط آجال الوساطة المحدد في 3 أشهر التي يمكن للأطراف باتفاقهم تمديدها لنفس المدة مرة واحدة، و أن يتقيد الوسيط بأحكام السر المهني أثناء سير مسطرة الوساطة . و سنركز على شرط الكتابة نظرا لأهميته.
فطبقا لنص الفصل 58-327 من القانون رقم 05-08 “يجب أن يبرم اتفاق الوساطة كتابة إما بعقد رسمي أو عرفي أو بمحضر يحرر أمام المحكمة”، و قد تساهل المشرع المغربي في هذا الشأن مع الأطراف و ذلك بتوسيع دائرة الكتابة، حيث اعتبر شرط الكتابة إذا ورد في وثيقة موقعة من الأطراف أو في رسائل متبادلة أو اتصال بالتلكس أو برقيات أو أية وسيلة أخرى من وسائل الاتصال، حيث أن هذا التوسع في مفهوم الكتابة يتوافق مع ما جاء به القانون المتعلق بتبادل المعطيات الإلكترونية.
2 : الشروط الموضوعية للوساطة الاتفاقية
إضافة إلى الشروط الشكلية التي استوجبها المشرع المغربي للقول بصحة اتفاق الوساطة، اشترط كذلك ضرورة توافر هذا الاتفاق على شروط موضوعية تتعلق أساسا ببعض البيانات الواجب توافرها في شرط الوساطة أو عقد الوساطة. فبخصوص البيانات الواجب توفرها في عقد الوساطة، فطبقا للفصل 60-327 من قانون 05-08 “باعتبار اتفاق الوساطة يبرم بعد نشوء النزاع بين طرفيه ، ألزم المشرع الأطراف أن يحددوا في العقد موضوع النزاع و تعيين الوسيط أو التنصيص على طريقة تعيينه تحت طائل البطلان” أما بخصوص البيانات الواجب توفرها في شرط الوساطة، فبالإضافة إلى شرط الكتابة، و تضمين شرط الوساطة في العقد الأصلي أو في وثيقة تحيل عليه بشكل لا لبس فيه، يجب أن يتضمن تعيين الوسيط أو التنصيص على طريقة تعيينه
ثانيا: الجهة القائمة على الوساطة
يمثل الوسيط جوهر عملية الوساطة كوسيلة بديلة لحل نزاعات الشغل الجماعية، إذ يعمل على تقريب وجهات نظر أطراف النزاع، و في حالة تعذر ذلك يتعين أن يقدم توصية مكتوبة تتضمن اقتراحاته. و من ثم يقتضي التطرق للجهة القائمة على الوساطة بشكل مفصل (1) مع بيان أهم صلاحياته و التزاماته (2 )
1 : اختيار الوسيط و تعيينه
أوجب المشرع المغربي ضرورة التنصيص على موضوع النزاع في عقد الوساطة إضافة إلى ضرورة تعيين الوسيط أو التنصيص على طريقة تعيينه 6 . و التعيين الذي يقصده المشرع يتمثل في ضرورة تعيين الوسيط باسمه، إلا أنه وجب التمييز بين الوساطة المؤسساتية و تلك التي يقوم بها أفراد طبيعيون، ما دام أن الوساطة قد يقوم بها شخص طبيعي أو معنوي طبقا لما نص عليه الفصل 67-327 من قانون 05-08 .
فبالنسبة للوساطة المؤسساتية، فإذا انصب اختيار الأطراف، فلا تثير أي صعوبات إذ يبقى في الغالب تعيين الوسطاء من اختصاص المؤسسة أو المركز الذي لجأ إليه الأطراف و هذا ما يسري كذلك على التحكيم المؤسساتي 7 أما إذا كان الوسيط أو الوسطاء أشخاصا طبيعيين، فإن تعيين هؤلاء يتم من خلال تعيينهم بأسمائهم كقول الأطراف مثلا: و قد وقع اختيارنا على فلان كوسيط لحل هذا النزاع، و ليس هناك مانع من ذكر صفتهم إذا كانت لهم صفة كرئيس الغرفة الاجتماعية، و قد يتم تعيين أحد الوسطاء باسمه و الآخر بصفته
إلا أنه ليكون التعيين صحيحا، يجب ألا تظل شخصية الوسيط مجهولة، إذ لا يتم التعرف عليها كأن يقول الأطراف مثلا، و يعين قاضي المحكمة الابتدائية بمكناس كوسيط لحل أي نزاع قد ينتج عن هذا العقد، فالتعيين هنا غير دقيق، فأي قاض ، يقصد الأطراف؟
و المشرع المغربي قد رتب نتيجة حتمية عن عدم تعيين الوسيط أو التنصيص على طريقة تعيينه، إذ أن العقد يصبح باطلا بطلانا مطلقا مع ما يرتبه هذا البطلان من آثار سواء بالنسبة للعقد نفسه أو الأطراف، و قد أحسن المشرع في هذا التوجه و ذلك تفاديا لكل نزاع بين الطرفين حول شخصية الوسيط أو طريقة تعيينه. و تجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي لم يحدد الحد الأدنى لعدد الوسطاء الذين يجب أن ينظروا في النزاع كونه خاضع لحرية الأطراف و لطبيعة النزاع القائم بين الطرفين ، إذ هناك نزاعات الشغل الجماعية العويصة التي تستلزم أكثر من وسيط، و أخرى لا تستلزم إلا وسيط ولحد أو اثنين.
2 : صلاحيات الوسيط و التزاماته
باعتبار الوساطة وسيلة بديلة لتسوية نزاعات الشغل الجماعية و عملية تقنية يلعب فيها الوسيط دورا أساسيا يتمتع خلالها بمجموعة من الصلاحيات، كما أنه يكون ملزما بمجموعة من الالتزامات
أ-صلاحيات الوسيط :
بالاطلاع على الفقرة الثالثة من الفصل 67 - 327 و الفصل 68 - 327 في فقراته الأولى، الثانية و الثالثة من قانو ن 05 - 08 ، نجد أن المشرع قد منح للوسيط مجموعة من الصلاحيات:
أولهم تتمثل في الاستماع إلى الأطراف، إذ يجوز للوسيط أن يستمع إلى طرفي النزاع إما مجتمعين أو أن ستمع إلى كل واحد منهم على انفراد، و يقارن بين أقوالهم و تصريحاتهم ، و ذلك لتمكينه من معرفة أسباب النزاع الحقيقية و يمكنه الاستماع إليهم في أي وقت يختاره و في أي مكان مع مراعاة سكناهما. و خلال الاستماع إليهم، يجب أن يمنح لهم كامل الصلاحية للتعبير عن آرائهم و بسط مواقفهم بكل حرية و توفير المناخ الملائم لهم لعرض اقتراحاتهم و الحلول التي ترضيهم، في حين يجب على الأطراف تزويده بكل الوثائق و البيانات التي تساعده على أداء مهمته 8.
و ثانيهم تتمثل في الاستماع إلى الأغيار و المقصود بهم الشهود من خلال الفصل 68 - 327 في فقرته الثانية ، إذ يستدعيهم الوسيط للاستماع لهم و ذلك بعد موافقة الأطراف، حيث رخص لهم المشرع قبول أو عدم قبول أداء الشهادة.
و إضافة إلى ما سبق، يمكن للوسيط الاستعانة بخبراء حسب ما ينص عليه الفصل 68 - 327 في فقرته الثالثة من نفس القانون أعلاه، و يمكن تعريف الخبرة بالقول إلى أنها هي كل إجراء للتحقيق يعهد به الوسيط إلى شخص مختص ينعت بالخبير-للقيام بمهمة محددة تتعلق بواقعة أو وقائع مادية يستلزم بحثها أو إبداء رأي فيها علما أو فنا لا يتوفر في الوسيط أو في الشخص العادي عامة . و قد قيد المشرع هذا الإجراء بضرورة الحصول على موافقة مسبقة من قبل الأطراف. و إذا كان الوسيط يتمتع ببعض الصلاحيات، فإن المشرع فرض عليه بعض الالتزامات و التي قد تصل إلى المسؤولية في حالة الإخلال بها إلى حد المسؤولية الجنائية.
ب-التزامات الوسيط :
ألزم المشرع المغربي الوسيط من خلال الفصل 66 - 327 من قانون 05 - 08 بكتمان السر المهني بالنسبة للغير أي الحفاظ على سرية المعلومات المتبادلة أثناء إجراءات و مراحل الوساطة، و ذلك من خلال إجباره للأطراف منذ اللقاء الأول أن كل ما سيجري أثناء مراحل الوساطة من حوارات و تبادل للمعلومات و الوثائق تبقى محاطة بالسرية التامة. إلا أن واجب الالتزام بالسرية، التي تسري لا على الوسيط فقط بل على الأطراف جميعا بحكم أن رغبة الأطراف في التوصل إلى حل يبقى مرتبطا كذلك برغبتهم في الحفاظ على أسرارهم الشخصية و العائلية و المهنية…إلا أن هذا الالتزام يبقى نسبيا بين جميع أطراف الوساطة، و مبدأ حسن النية و تحلي الأطراف المعنية بالأخلاق التعاقدية و الشفافية لهو الكفيل بحفظ أسرار الغير و عدم إفشائها 9
إضافة إلى هذا، فقد أوجب المشرع من خلال الفقرة الثانية من الفصل 27 - 327 من نفس القانون أعلاه ، على الوسيط إخبار الأطراف بقبوله للمهمة المسندة إليه بمجرد قبولها، و ذلك من خلال إعلام الطرفين للاستعداد لبدء إجراءات الوساطة و تهييء كل طرف لنفسه و استجماع الوثائق و الحجج و كل ما يراه مفيدا أثناء جلسات الاستماع الأولى، و قد استلزم المشرع ضرورة تبليغ الأطراف برسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل أو بواسطة مفوض قضائي، إذ أن هاتين الطريقتين تعدان الأنجع من بين طرق التبليغ بصفة عامة لما توفره من اليقين على تبليغ الشخص المعني بالأمر.
و تمتد التزامات الوسيط إلى التزام هذا الأخير بعدم التخلي عن مهمته في العمل على التوفيق بين أطراف النزاع و
وجهات نظرهم حول موضوع النزاع، و قد أورد المشرع بعض الاستثناءات التي يجوز فيها للوسيط التخلي عن مهمته و التي تتلخص في: إعفاء الأطراف للوسيط من مهمته .
انصرام آجال الوساطة – 3 أشهر – دون التوصل إلى حل. إذن القاضي بذلك طبقا للحالات التي أوردها المشرع في الفصل 64 - 327 المحال عليه في الفصل 67 - 327 من القانون رقم 05 - 08 .
الفقرة الثالثة: مباشرة عملية الوساطة الاتفاقية
لا يمكن للوسيط الوصول إلى حل النزاع إلا باحترام المراحل المسطرة لها )أولا( و بعد احترام المبادئ المؤطرة
للوساطة الاتفاقية، و الوصول إلى المرحلة الأخيرة من مراحل سيرها، قد تتوج هذه المرحلة بنتيجة، هاته الأخيرة قد
تكون إيجابية “نجاح الوساطة” أو سلبية “فشل الوساطة” )ثانيا(،
أولا : مراحل مسطرة الوساطة الاتفاقية
نظم المشرع المغربي في الفصل 68 - 327 من قانون المسطرة المدنية، الإجراءات المحددة لمسطرة الوساطة الاتفاقية، و التي يمكن القول بأنها تنقسم إلى 3 مراحل انطلاقا من الفصل و هي: مرحلة الاستماع للأطراف و مرحلة التحقيق في النزاع ثم مرحلة الاتفاق و التسوية. غير أنه لا يوجد عدد محدد للمراحل التي تمر منها مسطرة الوساطة فقد يقل أو يزيد عدد المراحل بحسب طبيعة النزاع و دور الوسيط و مدى استعداد الأطراف. فغالبا ما يتم إجمال هذه المراحل في 4 و تتمثل في :
1 -مرحلة المقدمة و الإعداد للوساطة
عملا بالفقرة الثانية من الفصل 67 - 327 من قانون رقم 05 - 08 ، يتعين على الوسيط بمجرد قبوله للمهمة المسندة إليه، إخبار الأطراف بذلك و اطلاعهم على تاريخ بدء عملية الوساطة الاتفاقية. ففي هذه المرحلة، يتم التعارف و ربط الاتصال الأولي، و هي تعد مرحلة حاسمة في مصير الوساطة الاتفاقية، فيما إذا كان سينتهي بها الأمر بالاستمرار فيها أو إلغائها. إذ من المحتمل جدا أن يكون لدى الأطراف في البداية نوع من التشكك و الانزعاج حيال مسطرة الوساطة الاتفاقية و التي ترتكز بدورها في نجاحها إلى حد كبير على الطرفين و كذا على خبرة و نباهة الوسيط.
و تشمل هاته المرحلة ثلاث نقاط أساسية: تتمثل الأولى في شرح مسار الوساطة و التزامات كل من الوسيط و الأطراف، و تحديد الأهداف و بيان القواعد التي تحكم سير جلسات الوساطة، بينما تتعلق الثانية بتقييم مدى قابلية النزاع للحل عن طريق الوساطة و وضع الأرضية الأساسية للعمل، و تحديد دور كل طرف في النزاع، أما الثالثة فتنصب حول شرح آلية الوساطة من دور و مهمة الوسيط فيها، و قراءة المذكرات و الحجج الداعمة لكل طرف، و تحديد مكان و زمان الأشغال التحضيرية للوساطة و الاجتماعات التمهيدية و توفير المناخ المناسب للتفاوض إلا أنه يجب على الوسيط قبل إنهائه للقاء الأول مع الأطراف، أن يسألهم إذا ما كانوا يرغبون، في استمرار الوساطة أم لا.
2- مرحلة افتتاح الوساطة و الشروع فيها
تشمل هاته المرحلة استقبال الأطراف، و توفير قاعات للاجتماع المنفرد و الجماعي بهم، حيث هناك جلستان يقوم بها الوسيط و هما:
جلسة أولى مشتركة يحضرها جميع الأطراف و محاسبهم، و يستهلها الوسيط بتقديم فكرة عن مهمته، و يحث الطرفين على التزام الموضوعية و الجدية و الصراحة في بسط وجهات نظرهم، و اغتنام الفرصة للتوصل إلى حل متفق عليه للنزاع. ثم يطلب من الفريق المدعي إعطاء بيان مختصر عن وقائع الدعوى و الوثائق التي يستند إليهان و ما هي الحقوق التي يطالب بها، و بعد ذلك بطلب من المدعى عليه تقديم جواب أو وجهة نظره في النزاع
جلسة ثانية يعقدها الوسيط منفردة مع كل طرف على حدة، و يبدؤها مع المدعي و محاميه و التي لا تتجاوز مدتها ربع ساعة أو نصف ساعة على الأكثر 10 . و يطلب منهما حصر الطلبات النهائية التي سيعرضها على المدعى عليه و محاميه في جلسة منفردة يستمع فيها لردهما أو بالأحرى عرضهما المقترح لحل النزاع، و بعدها يبلغها للمدعي من جديد. في هذه المرحلة، الوسيط يستمع فقط لوجهات النظر المتباينة للأطراف، و يسعى إلى تحديد نقط الاتفاق و الاختلاف.
3 -مرحلة دراسة النزاع و التفاوض
تعتبر هذه المرحلة من المراحل الأساسية للوساطة حيث يتجلى فيها الدور الكبير للوسيط، يتم خلالها توفير
أرضية مناسبة لحل النزاع من خلال عقد اجتماعات سواء فردية أو جماعية، يتم فيها التطرق لمواضيع النزاع إما
جميعها أو تجزئتها إلى نقاط و التعامل مع كل واحدة تلو الأخرى، إذ يعمل الوسيط بعد أخذه موافقة الأطراف و طبقا
للصلاحيات المخولة له ، الاستماع إلى الأغيار الذين يقبلون ذلك. فدور الوسيط يكتفي بتشجيع الأطراف على تسوية
موضوع النزاع بينهما بأي طريقة يراها مناسبة دون أن يكون له أي سلطة لفرض تسوية على الطرفين.
و في آخرها، يجب أن يكون الوسيط قد حدد طلباته و مواقفه لينتقل إلى مرحلة حاسمة ألا و هي تحفيز الأطراف
لاستحداث بعض الخيارات و تقديم بعض الاقتراحات كحلول للنزاع
4 -مرحلة الاتفاق و تسوية النزاع:
هي المرحلة النهائية التي يتم فيها النطق بالحل سواء نجاح أو فشل الوساطة، إذ يعقد الوسيط أولا جلسة يستعرض فيها نتائج مهمته، فإذا ما انتهت المهمة باتفاق الطرفين على حل حبي، فإن هذه الجلسة تخصص للتوقيع على وثيقة صلح كتابية تحرر لهذه الغاية من طرف الوسيط فورا، تتضمن وقائع النزاع و كيفية حله و ما توصل إليهو ما اتفق عليه الأطراف على الشكل الذي يضع حدا للنزاع القائم بينهم و يتفق مع القانون المنظم للوساطة، و يتسلم كل طرف صورة منها ثم يتم تبادل التهاني و عبارات التقدير.
أما في الحالة الأخرى، التي تكون فيها النتيجة سلبية و يتعذر الوصول إلى حل حبي للنزاع، فالوسيط يقوم بتسليم وثيقة عدم وقوع صلح التي تحمل توقيعه للأطراف، مع تأكيده على سرية كل ما راج في كافة مراحل الوساطة، و عدم إمكانية التمسك به أمام المحكمة، في حالة لجوء الأطراف إلى الوساطة
ثانيا : نتائج الوساطة
قد تنتهي الوساطة بالوصول إلى حل توافقي للنزاع ( 1)، كما قد تنتهي بفشل الأطراف في التوصل إلى حل بينهم ( 2 .)
1 : فشل الوساطة
إن فشل الوساطة يتم عندما لا يتمكن الوسيط من تسوية النزاع كليا أو جزئيا خلال المدة القانونية بسبب وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، لا يمكن معها للأطراف الاستمرار في النقاش نظرا لعدم تقارب وجهات نظرهم حول النزاع، أو بسبب تغيب الخصوم و عدم متابعتهم لإجراءات الوساطة…إذ أن الوسيط في هذه الحالة يخبر الأطراف بهذا الفشل 11 . في هذه الحالة، يسلم الوسيط للأطراف وثيقة عدم الصلح. إلا أن السؤال الذي يطرح، ما الغاية من تسليم هذه الوثيقة ما دام لم يتوصل الأطراف إلى صلح و ما دام لا يمكن التمسك بما جرى أمام الوسيط من نقاشات أو تبادل للحجج أمام جهة أخرى؟ لذا يمكن القول أن هذا الإجراء لا فائدة منه، و يمكن اعتباره تكليفا للوسيط و إجراءا لا طائل له يستحسن إلغاؤه في أول فرصة تتاح للمشرع، تكريسا لخاصية المرونة و السرعة التي تتميز بها هاته الوساطة. و أخيرا، ففشل الوساطة لا يمنع من اللجوء إلى القضاء و إحالة النزاع إليه.
2- نجاح الوساطة
تتوج الوساطة بالنجاح من خلال اتفاق الأطراف حول نقط الخلاف، و يتحقق هذا بانخراط كل طرف في المفاوضات بشكل جدي باستماعه للطرف الآخر و استعداده للتنازل عن بعض حقوقه ليتأتى التوافق فيما بينهم. و هذا الاتفاق قد يكون كليا من خلال اتفاق الأطراف على جميع النقط التي كانت محل خلاف بينهم. و قد يكون جزئيا باتفاقهم على بعض النقط، و اختلافهم على بعضها، و قد نص المشرع في الفقرة الخامسة من الفصل 68 -327 من القانون رقم 05 - 08 أنه تحرر وثيقة الصلح التي وجب تضمينها وقائع النزاع و كيفية حله و ما توصل إليه و ما اتفق عليه الأطراف على الشكل الذي يضع حدا للنزاع القائم بينهم، كما نص المشرع المغربي في الفقرة الأخيرة من الفصل 68 - 327 من نفس القانون أعلاه على أن الصلح الذي توصل إليه الأطراف يخضع للقسم التاسع من الكتاب الثاني لقانون التزامات و عقود المنظم للصلح.
و كذلك نص ال مشرع المغربي على أن يوقع الوسيط وثيقة الصلح الذي توصل إليه، إضافة إلى أنه و حسب الفصل 69 - 327 من نفس القانون أعلاه، يكتسي الصلح بين الأطراف قوة الشيء المقضي به، و يمكن أن يذيل بالصيغة التنفيذية. و من خلال الرجوع للفصل 1110 من القسم التاسع من الكتاب الثاني من ق.ا.ع. ، نجد أنه يعطي لكل طرف من طرفي الصلح التحلل من التزامه إذا لم يقم الطرف الآخر بتنفيذ التزامه مع حفظ حق الطرف الأول في طلب التعويض و هذا يسري على الوساطة أخذا بمفهوم الموافقة، كما أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه من قبل الطرفين، لا يمكن نسخه استنادا إلى اكتشاف بعض المستندات التي كانت مجهولة طبقا للفصل 1113 من
ق.ا.ع.
1 - و نقول الوساطة الاتفاقية فقط على أساس أن المشرع المغربي و من خلال الفصل 327 في فقراته من 55 إلى 69 ، اقتصر على تنظيم
الوساطة الاتفاقية فقط دون القضائية رغم أنه في الأنظمة المقارنة تقوم على الصورتين معا.
2- ذ. محمد أطويف ، الطرق البديلة لتسوية نزاعات الشغل ، دار النشر المعرفة، ص 144 .
3 – ذ. محمد أطويف ، الكتاب ،م.س. ، ص 146-
4 - ذ محمد أطويف ، الكتاب ، م.س. ، ص 147
5- محمد الدين القيسي، الوساطة و المصالحة و المفاوضات ، وسائل بديلة لحل الخلافات التجارية، بحث مقدم في الملتفى الأول العربي للتحكيم و الوسائل البديلة
لتسوية المنازعات المنعقد في بيروت منشور بالموقع الإلكترونيhttp //www.ccib.org/lb/pdf.
6 - فقد جاء في الفصل 60 - 327 من قانون 05 - 08 على أنه : ” يجب أن يتضمن عقد الوساطة تحت طائلة البطلان: أ- تحديد موضوع النزاع/ ب- تعيين الوسيط أو
التنصيص على طريقة تعيينه و إذا رفض الوسيط المعني القيام بالمهمة المسندة إليه جاز للأطراف الاتفاق على اسم وسيط آخر , إلا اعتبر العقد لاغيا.
7 - محمد بابا، التحكيم الدولي في منازعات الملكية الصناعية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات المعمقة، جامعة محمد الخامس السويسي، الرباط سنة 2004 ، ص 37 .
8 www.arablaw.org
9 - ذ. محمد أطويف، الكتاب،م.س. ، ص 341 - 342 - 343
10 -Processus de la médiation , article publiée dans le site web : http//fr.wikimediation.org
11 إذ نص المشرع في ف 7 من الفصل 68 - 327 من القانون رقم 05 - 08 على أنه ” في حالة عدم وقوع الصلح لأي سبب من الأسباب فإن الوسيط يسلم وثيقة عدم وقوع
الصلح التي تحمل توقيعه للأطراف”.
التسميات :
نزاعات الشغل الجماعية